حتى أصحاب القضية الفلسطينية لم يتحدثوا أو ترتفع أصواتهم تجاه قضيتهم، ولم يقدموا أنفسهم كأوصياء على هذه القضية بقدر ما فعل قادة “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” خلال العقود الأربعة الماضية. تحت شعار “المقاومة، و وحدة الساحات، و يوم للقدس، وفيلق القدس ، و كتائب القدس، سحب الملالي وأذرعهم القضية الفلسطينية، حتى من أهلها. أتت فضيحتهم في السابع من أكتوبر؛ وتكشف التزييف والمزايدة، عندما أضحى الهاجس الأساس لهذا الحلف هو التنصّل، والنأي بالنفس عن فعل حماس، التي كانوا قد اعتبروها أحد أهم أذرع الحلف. قايض ملالي طهران التنصل مما حدث والنأي بالنفس بقبول الانكشاف و الفضيحة، علّهم يحصلون على تجديد لعقد التخادم مع إسرائيل و مَن خلفها؛ فهل تنجح مساعيهم، أم باتت من المستحيل؟
تشير المعطيات الى شبه استحالة في تجديد عقود المنظومة التخادمية الايرانية وأذرعها لجملة من الأسباب، على رأسها أن أي اتفاق وفق قواعد جديدة يعني وقتاً محميًا لتراكم قدراتي لدى المنظومة أكبر وأشد ضررًا على منطقة هي الأكثر حساسية جيوسياسياً.
من جانب آخر، لن يغفر هذا العالم الأقوى المتحكم بكوكبنا الضرر الذي حصل لقاعدته المتقدمة، “إسرائيل”، ولا الدمار الذي أصاب أمنها القومي، وما لحق بسمعتها عالمياً كردة فعل على إجرامها غير المسبوق بحق الفلسطينيين؛ ولا الضرر الأكبر الذي لحق بها بسبب الهجرة اليهودية العكسية؛ وهذا أمر قاتلٌ لكيان يعتمد الامن الاستباقي وسيلة ردع.
واضح أن نادي الأقوياء هذا لا يريد أن تكون دولة الملالي في عضويته، وخاصة أنها تقترب من امتلاك السلاح الذري، إضافة إلى امتلاكها قدرات صاروخية يصعب ضبطها بظل سيولة المعلومات التكنولوجية، التي انتقلت حتى لأذرعها؛ فهو يدرك أن الاستمرار بعقود التخادم مع منظومة الملالي وأذرعها يعني أن مشاريع الطاقة والطرق العالمية كالهند والحرير، وخطط التنمية والتطبيع العربي المنتظر ستكون رهينة لها؛ ففي خرائط اقتصادية كبرى قادمة تصبح المنظومة عنصر كبح وعرقلة.
وبحكم أدائها السياسي الداخلي لم يعد خفياً على أحد أن منظومة الملالي وأذرعها قمعية بتركيبتها؛ تغيّب الحريات، تصطنع عدواً خارجياً، وتخوّن كل اصطفاف مطلبي مجتمعي. وكل ذلك يحول دون ظهور مجتمع مدني سياسي يفكر خارج الصندوق. ومن هنا يستمر الغليان الشعبي الرافض لها، والساعي للانعتاق من طغيانها، بانتظار التغيير.
لا يمكن لمنظومة الملالي وأذرعها ان تخرج من اصطفاف طائفي يتداخل فيه تراكم تاريخي ومظلومية جذبت ملايين الشيعة بلا برامج سياسية واقتصادية بظل صراع تاريخي سني شيعي صفوي بلغ ذروته بعهد الخميني وورثته، ما يعزل ايران ليس سياسيا فقط، بل كهوية فارسية دخيلة تلفظها المجتمعات العربية خصوصا بعد اداء ايران بالعقود الأخيرة وما تسببت به من دماء. ومن هنا، من شأن إنهاء عقود التخادم، وإحلال السلام في هذه المنطقة سيعيد إيران دولة عالم ثالث مرتبكة تعتمد على الطاقة كوزن سياسي.
هذه المنظومة التخادمية عالقة بين مجتمعات تلفظها، ونظام غربي واسرائيلي ينكبُّ على فحص جدوى السياق القديم الوظيفي، ناهيك عن انظمة خليجية اتخذت قرارها بدخول عصر التنمية بصفر ايدلوجيا، وتضخم للهوية القبلية السلطوية، والأنا المحلية التي تتحدث عن التطبيع علناً و رسميا تقودها نخب محلية تتحدث بذلك بصوت عال دون حرج، وتجد صدى جماهيري واسع ملموس.
هناك هوَة يصعب جداً جَبْرُها سواء بآثار عملية غزة وارتباط محاورها، او بطبيعة المنظومة الايدلوجية الداخلية ذاتها؛ فهكذا منظومة متهالكة داخليا لا قيمة لاي اتفاق او سلام تقدّمه على الطاولة، لان تغييب الحريات تم بالسلاح نفسه الذي تراكمت قدراته المنفلته بمشهد غزة. فعندما يقولون الان بابعاد حزب الله خلف الليطاني، فهذا تكتيك مرحلي ريثما يتم تحييد حماس نهائياً، ثم التفرغ للهدف التالي. فما قيمة ان تبعد الحزب ١٠٠ كم، ولديه صواريخ تتجاوز اضعاف المسافة؟! وماقيمة اتفاق سياسي لا ينهي خطر مؤسسة بحثية عسكرية بخبرات تتراكم تشتغل عندها وهي محمية باتفاق سياسي؟! اليس هذا وقتا مضافا لتراكم قدراتي كارثي ياتي بيوم جديد يشبه ٧ أكتوبر؟!
الأمن القادم إلى المنطقة، ولعقود لن يقوم مجدداً على تمرير التكتيكي على حساب الاستراتيجي. لقد تمَّ الصمت على هذا الهامش التخادمي لأنه تحت عنوان مصالح مضمونة بكلفة صفرية؛ لكن تبين بلحظة أن التداعي بنتائجه نسف كل حصاد الهامش التخادمي لعقود مضت، وألحق ضررًا بزمن آتٍ. لا يُعقَل أن تغيب هذه المقاربة عن مهندسي الأمن القومي لمنطقتنا ولغيرها؛ وخاصةً إذا أتى حصاد ما بعد غزة وحماس بمصالح كبرى حيوية لكل الأطراف، و عودةٍ للأقوياء للشرق الاوسط بعد سياسة عدم التدخل لعقد مضى.